ثلاثة أسابيع مع أخى .. رحلة تجمع بين الحاضر والماضى ..

يُنظر دومًا لحياة المشاهير بالإعجاب والظن أنها الحياة المثالية التي يتمناها كل شخص، لكن خلال هذا الكتاب سنكتشف أن هذا الافتراض غير صحيح على العموم، فكل شخص أيًا كان عمله أو مكانته الاجتماعية يحمل من الآلام والندوب النفسية والمشاكل اليوميه والماضي المؤلم مثل باقي البشر.
واليوم نتعرف على ذلك عن قرب في مذكرات الكاتب الأمريكي المعروف “نيكولاس سباركس” صاحب العديد من الروايات الشهيرة، والتي تم تحويل معظمها إلى أفلام سينمائية مثل “مذكرات حب”، و”رسالة في زجاجة”، و”الأغنية الأخيرة” وغيرها.
الملهم في هذا الكتاب أن قصة حياة الكاتب تحفل بالعديد من التفاصيل البسيطة مثل التي يعيشها كل منا، لم يؤلف أول رواية له في طفولته ولا كان دومًا الطفل العبقري الذي يتحدث عنه الجميع، ولا الشاب محل إعجاب الفتيات، كان طفلًا عاديًا لايلفت الأنظار، ولكن في ذات الوقت صنع لنفسه هذه المكانة بكدّه وإصراره وإيمانه بموهبته ومثابرته على القيام بكل مهامه، كزوج محب، كأب لخمسة أولاد يبلغ سن أكبرهم وقت كتابة هذا الكتاب اثنتي عشرة سنة والأصغر ثلاث سنوات، ككاتب ينتظر القراء رواياته بلهفة، نرى معًا على صفحات هذا الكتاب كيف تحول هذا الطفل الصغير الهادئ إلى هذا الشخص الذي ينظر العالم له بإعجاب.
تبدأ القصة بمنشور لرحلة وصل للكاتب بالبريد، رحلة حول العالم في ثلاثة أسابيع، يتحمس لهذه الرحلة في البداية ويقرر أن يذهب بمرافقة أخيه الأكبر ميكا، في الحقيقة يجمع هذا الكتاب بين أدب الرحلات والسيرة الذاتية، لكن في المجمل نجد أن قصة حياة الكاتب هي الطاغية على الأحداث، فبعد تعريف بسيط وبعض المواقف التي تحدث في كل محطة من محطات الرحلة، يبدأ في سرد ذكرياته هو وأخيه، لتتجمع لدينا في النهاية قصة ملهمة للغاية للأخوين الذي لم يكن طريقهما ممهدًا على الإطلاق.
24455612_1039129
نتعرف على أبوين مكافحين، تزوجا في سن صغيرة وأنجبا ولدين وبنتًا، ميكا، نيكو، ودانا، كما كان يُطلق عليهم، عاش الأطفال طفولة فقيرة وقاسية علمتهم التآزر، والاحساس بمسؤولية كل منهم عن الآخرين.
الأب أكاديمي يتمنى الحصول على شهادة الدكتوراة، وفي ذات الوقت يعمل في عدة وظائف حتى يستطيع إعالة أسرته، والأم تحاول لم شمل الأسرة والحفاظ عليها، ومع الضغوطات المادية كثيرًا ما يتشاجران فيحاول الأطفال أن ينعزلوا عن هذا الجو القاتم في عالم بسيط من صنعهم.
في سن المراهقة بدأت السبل تفترق بين الإخوة الثلاثة، وتظهر الملامح المتفردة لكل منهم، مابين ميكا المرح والجامح، الذي يثير المشاكل دومًا، ونيكو الذي يعشق القراءة والمتفوق في دراسته، ودانا التي تحولت إلى فتاة رقيقة حالمة.
لا يخجل الكاتب من سرد الكثير من مشاعر الطفولة التي قد يراها البعض تافهة أو شخصية للغاية، فهذه التفاصيل الصغيرة هي ما شكلت شبابه ورجولته، كونه الطفل الأوسط جعله يشعر دومًا أنه لايحظى بالانتباه ولا المحبة مثل أخويه، فلا هو مشاغب بارع في الألعاب الرياضية مثل ميكا، ولا هو دانا الفتاة الوحيدة في العائلة، ومهما تفوق في الدراسة فهو لا يشعر أنه يلفت الانتباه، مثل ميكا ودانا.
نيكولاس سباركس خلال صفحات هذا الكتاب يمارس شيئًا يشبه العلاج النفسي، يخرج مكنونات نفسه التي يخشاها ويحلل ماضيه وحاضره، وكيف أثر هذا في ذاك، فالطفل الذي يشعر أنه غير مرئي أنتج هذا الرجل الذي كون عائلة كبيرة من خمسة أطفال يهتم بهم  كثيرًا حتى لايشعر أحدهم بما شعر به، أصبح كاتبًا لامعًا معروفًا في أغلب بلدان العالم، لا يستطيع أحد أن يعتبره غير لافت للانتباه، مارس الكاتب نوعًا من التطهر ليتخلص من الذكريات القاسية التي مازالت تؤرقه.
ساهمت سنوات الدراسة الجامعية في صقل شخصيته، والأهم أنه خاض أول تجربة له في مجال التأليف وتعرف على زوجته المستقبلية كاثي، ففي نهاية الدراسة الثانوية بدأ ممارسة العدو وبرع فيها واشترك في فرقة محلية ونافس معها على البطولات، وأعطته هذه الرياضة الثقة في النفس التي كان يحتاجها، لكن أجبره الأطباء على عدم ممارسة هذه الهواية بعد إصابة في قدمه، مما أدخله في حالة اكتئاب شديدة.
في هذه اللحظة أخبرته أمه نصيحة ذهبية كانت سببًا في أغلب نجاحاته فيما بعد، نصحته بأن يفعل أي شيء يشعره بالإنجاز حتى لو كان غير مهم، فقرر أن يجرب كتابة رواية، وبالفعل على مدار ستة أسابيع ولمدة  7 ساعات يوميًا أنهى روايته الأولى والتي كان يعلم أنها غير صالحة للنشر وسيئة للغاية، لكن ساعدته على الخروج من الحالة النفسية السيئة التي مر خلالها.
تخرج بعد ذلك من الجامعة ليفقد كل ماكان يميزه، فهو كان عدّاء جيدًا وطالبًا متفوقًا، فدخل سوق العمل وهو لايعرف إمكانياته الفعلية، فعمل كنادل لبعض الوقت، ثم بدأ في احتراف التثمين العقاري بالاشتراك مع أخيه ميكا، وجمع بعض المال الذي استطاع به أن يتزوج حبيبته وهو فى الثالثة والعشرين من العمر، ولايحصل على غير الحد الأدنى من الأجور في الولايات المتحدة.
24455612_1039131
لطمات ولثمات
أعتذر للأديب الكبير الراحل “يوسف السباعي” في استعارة عنوان أحد مجموعاته القصصية، لكن بالفعل لا شيء يعبر عن هذه المرحلة من حياة الكاتب سوى هذا العنوان، فالحياة كلما أعطته قبسًا من السعادة أعقبته بتعاسة تبتلع كل ما سبقها، كما لو أنها تثبت له المرة تلو الأخرى أن لاشيء يدوم.
فبعد زواجه بأقل من شهرين، وفي حادثة غير متوقعة سقطت والدته من أعلى جوادها لتفارق الحياة بعد ساعات وهي في السابعة والأربعين من عمرها، ويدخل بعد وفاتها والده في حالة اكتئاب تستمر طوال ماتبقى من حياته، ومن أعراض هذا الاكتئاب الغضب الشديد الذي يصيبه على عائلته وخصوصًا ابنه نيكولاس.
بعد سنة من الوفاة بدأت الحياة تبتسم بحمل كاثي، ولكن في أول موعد للحصول على صورة بالأشعة للجنين اكتشف الطبيب أن قلبه لا ينبض، فخضعت زوجته لعملية إجهاض لينتهي الحلم قبل أن يبدأ.
عاشا عامًا من اليأس والخوف من احتمالية عدم حدوث حمل آخر، لكن بعد ثلاثة أعوام من وفاة والدته ومخاض صعب كاد أن يتسبب في فقدان الجنين مرة أخرى، أصبح نيكولاس أبًا للمرة الأولى.
أخذت المسؤوليات تزيد، فاعتزل الاستثمار العقاري وبدأ العمل كمندوب لشركات الأدوية، ويُعد العدة للانتقال إلى ولاية أخرى، وقبل مغادرته بأيام استقبل مكالمة مضطربة من والده يطلب منه الإسراع إلى المشفى.
أتت الضربة هذه المرة موجهة إلى أخته الصغرى دانا، أصابتها نوبة صرعية بدون مقدمات، واحتار الأطباء في تشخصيها لمدة طويلة مما اضطره للمغادرة رغمًا عنه.
عانت العائلة فترة عصيبة، عجز الأطباء عن تشخيص حالة دانا، وما أن علم أن زوجته حامل للمرة الثانية، حتى عرف أن أخته مصابة بورم في المخ سيتم استئصال جزء منه.
مثلما فعل من قبل عندما كتب روايته الأولى، قام مرة أخرى في البدء في رواية أخرى استلهم قصتها من حياة جدي زوجتهـ وهي التي تم نشرها تحت اسم “مذكرات حب” وتحويلها بعد ذلك إلى فيلم سينمائي شهير، وفي لحظة واحدة انتهت كل مشاكله المادية، فقد حصل على مليون دولار مقابل حقوق نشر هذه الرواية.
لكن، القدر أبى له أن يستمتع بهذا النجاح طويلًا، فبعد قليل علم أن ابنه يعاني من خطب ما، لا يستطيع الأطباء تحديده بدقة، وتدور الشكوك حول التوحد، أو فرط الحركة ونقص التركيز، ليدفن حزنه مرة أخرى في الكتابة ويبدأ روايته الثانية “رسالة في زجاجة” واستلهمها هذه المرة من حزن والده على والدته وعدم قدرته على الحياة بصورة طبيعية بعدها.
وخلال حلقة تلفزيونية يتم تصويرها في منزله بعد نجاح روايته الأولى نجاحًا لامثيل له، تلقى مكالمة تليفونية من شقيقه يخبره أن والده توفي في حادث سيارة ليأتي الألم في أوج النجاح مرة أخرى.
قرر نيكولاس أن يستقيل من عمله كمندوب للأدوية الذي احتفظ به رغم ثرائه المفاجئ خوفًا من غدر الأيام؛ وذلك لأنه قرر أن يخصص هذا العام لابنه راين ليستطيع أن يساعده ويحسن من حالته رغم أن الأطباء لم يستطيعوا تشخصيه بعد؛ ربما لأنه مصاب بعدة أمراض في ذات الوقت، عاش معه فترة تعليم صعبة، وبدأ يرى نتيجة عمله معه في تحسن ملحوظ في سلوك الطفل.
وفي ذات الوقت بدأ ورم دانا في معاودة النمو، استلهم من حياة أخته القاسية وقصة حبها وإنجابها ورعايتها لتوأمين وهي تعاني من هذا المرض المميت في روايته “نزهة للذكرى”، والتي تحولت إلى فيلم سينمائي أبكى الملايين، ولم يعلم أحد أن أخت الكاتب تعاني أصعب مما جاء في أحداث الرواية.
ألمه خلال حرب أخته ضد مرضها العضال لا يضاهي شعوره باليأس عندما علم أن كل مافعله الأطباء وإرادتها الحديدية لم ينجحا، وأنها بالفعل تحتضر، رغم أنها لا تريد أن تصدق ذلك وتتمنى أن تحارب لآخر ثانية في حياتها، ولكن تنتهي حياتها بهدوء ليكتشف الأخوان أمام قبرها أنهما الفردان الوحيدان الباقيان في أسرتهما، فقد فقدا الأب والأم والأخت في بضع سنوات فقط.
24455612_1039133
كلا الأخوين يعتبران مثالًا في النجاح يحتذى، ولكن الخلفية التي أتيا منها والأحزان التي مرا بها تجعلهما أكثر من مثال، تجعلهما إلهامًا لكل يائس، وأنه بالعزيمة من الممكن أن يتحول كل ألم إلى نجاح كبير، كما تبعث على الإيمان بأهمية الحب الأخوي والعلاقات الأسرية القوية، ففي النهاية محبة الأخوين لبعضهما البعض هي ما أبقتهما صامدين حتى هذه اللحظة.
للمقال الأصلي: اضغط هنا 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق