خارطة الحب.. ماض وحاضر يلتقيان

قليلة هي الروايات التي تحتاج إلى  شجرة عائلة لأبطالها ليستطيع القارئ أن يتعرف عليهم وعلى العلاقات المتشابكة التي تربط بين بعضهم البعض.
رواية اليوم واحدة منها، وهي إحدى أجمل الروايات التي تجمع مابين الرومانسية والأحداث التاريخية في قالب جذاب للغاية.
رائعة اليوم للمبدعة أهداف سويف، والنص الأصلي مكتوب باللغة الإنجليزية وترجمته للعربية فاطمة موسى، والدة الأديبة ذاتها.
تجمع الرواية مابين خطين زمنين في أحداث تسير بالتوازي بينهما، ليتضح للقارئ بعد عدة صفحات العلاقات التي تربط بين قصة الحب التي جرت في الماضي وبين أثرها على أحفاد أبطال القصة القديمة.
تدور الأحداث في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وهي فترة في تاريخ مصر لو تعلمون حافلة بالعديد من التغييرات الاجتماعية والسياسية التي لا تزال نتائج بعضها يحصدها الشعب المصري حتى وقتنا الحالي.
شريف باشا البارودي، بطل الرواية كان من أحد محركي هذه الأحداث العظام، ورغم أنه شخصية خيالية إلا أن الكاتبة صنعت له من الجذور والأصول الواقعية، ما حوله إلى شخصية حية من لحم ودم، يبهر القارئ بشهامته وحدة ذكائه وعاطفته ليقع في حبه منذ البداية وحتى النهاية.
ربطت الكاتبة مابين الحقيقة والخيال، فجعلت عم البطل هو البارودي باشا أحد أهم المشاركين في الثورة العرابية والشاعر العظيم، وفي الرواية أضافت أن والد شريف باشا كان أيضًا من المشاركين في الثورة، ولكن بعد بدء التخلص من رؤوسها قام بالاعتكاف في منزله حتى تمر العاصفة بسلام.
شريف باشا، مثل عمه أيضًا مهتم بالشؤون السياسية بالإضافة لاهتمامه بالعديد من النواحي الاجتماعية لنتعرف عن قرب خلال الرواية على العديد من الشخصيات التي أثرت في تاريخ مصر، مثل مصطفى كامل وقاسم أمين وطلعت حرب، وغيرهم كثر.
أما عن الطرف الثاني فى هذه العلاقة فهي آنا، السيدة الإنجليزية التي يتعرف عليها القارئ منذ كانت زوجة لأحد النبلاء، والذي تطوع للحرب مع الجيش البريطاني في السودان ليعود إلى وطنه وهو يحمل العديد من الجراح النفسية التي غيرت مجرى حياته وشخصيته ذاتها.
عاش العديد من الأحداث القاسية خصوصًا التصرفات التي كان يقوم بها جيشه وجنوده ضد سكان البلد الأصليين، مما أصابه بصدمة في مبادئه ومُثله وكل ما آمن به عن وطنه، ليمضي أيامه في اكتئاب وعزلة حتى يغادر الحياة ليترك آنا أرملة شابة.
عاشت آنا فترة مابين الحزن والإحساس بالذنب لعدم قدرتها على مساعدة زوجها في الخروج من هذه المحنة النفسية، ولم تجد مخرجًا من هذه الحالة سوى في السفر لتصل إلى القاهرة وتبدأ القصة.
نترك آنا لبعض لوقت، تستكشف المدينة ونتقدم نحن في الزمن قليلًا.
نقابل إيزابيل الفتاة الأمريكية الواقعة في حب عمر الغمراوي الموسيقار المصري الأكبر منها سنًا، ولا يبدالها حبًا بحب، تترك نيويورك وتشد الرحال إلى القاهرة هربًا منه وإليه، منه: هربًا من رؤيته وإحباطها من عدم تجاوبه، وإليه: لأن أهم محطات رحلتها التعرف على أخته أمال.
السيدة المصرية والفتاة الأمريكية تنسجمان سريعًا، خصوصًا بعد الهدية التي تقدمها إيزابيل لها، وهي عبارة عن صندوق ضخم به مذكرات وقطع نسيج والعديد من الأشياء الأخرى التي يجمع بينها القدم.
من الممكن أن يستبق القارئ الأحداث ويطالع شجرة العائلة في الصفحة الأولى من الرواية، أو يفعل مثلما فعلت ويتجاهلها، ليفك الخيوط التي تربط بين الشخصيات عن طريق الأحداث نفسها ويتفاجئ من وقت لآخر بصحة استنتاجاته.
بعد قليل نكتشف أن الصندوق خاص بآنا، ويحتوي مذكراتها منذ كانت في إنجلترا، أما عن التساؤل كيف وصل الصندوق لأيدي إيزابيل، فالرد عنه أن إيزابيل هي حفيدة آنا، أما لماذا جذب أمال الصندوق لهذه الدرجة ودفعها لأن تكرس أيامها القادمة لبحث وتجميع تاريخ آنا وحكايتها وإعادة كتابتها؟ فستكشف عنه الاحداث بعد قليل.
نعود لآنا التي تكيفت بعض الشيء على الحياة في القاهرة، لنجدها غير منسجمة مع أفراد جاليتها، تضيق باحتقارهم لأصحاب البلد الأصليين، والقيود التي يضعونها حول تحركاتها، لذلك تقرر أن تستكشف القاهرة بوسيلتها الخاصة.
تتنكر آنا في أزياء مصرية، وفي زي الرجال، لتشاهد القاهرة الساحرة بدون حواجز من لون بشرتها ولون عيونها ولا جنسيتها، وعندما تعتاد النجاح تقرر أن تخوض مغامراتها الكبرى وهي التي ستغير مجرى الأحداث تمامًا.
تريد آنا أن تتعرف على سيناء التي طالما قرأت عنها في القصص والكتب، تستكشف الصحاري والجبال، فتتنكر في زي رجل وتصطحب خادمًا مصريًا أمينًا لتبدأ مغامراتها التي تنتهي بعد بضع خطوات.
تنتهي بسبب خطفها على أيدي بعض شباب الحركة الوطنية، ردًا على اعتقال حسني الغمرواي أحد قادتهم، بالطبع هم اختطفوها باعتبار أنها رجل إنجليزي، ولكن حين يعرفون الحقيقة لا يملكون سوى إخفائها في منزل أحد قادتهم شريف باشا البارودي.
لم يجدوا الباشا، فقاموا باستدعاء أخته وزوجة حسني الغمراي، ليلى هانم  البارودي لتتعامل مع هذا الوضع الشائك، تتعارف السيدتان لتجمع بينهما الصداقة بعد لحظات، وهي الصداقة التي تدوم حتى النهاية.
تتسامران حتى يأتي شريف باشا ليختار الحل الأمثل لهذه المعضلة، الذي ثار على  منفذين هذه العملية الحمقاء وكاد أن يسلمهم للشرطة لولا رجاء آنا نفسها.
كان اللقاء بين آنا وشريف في ظروف غريبة، هو معتذر عماحدث وهي في ملابس رجل مرتبكة، لكن هادئة ومسيطرة على أعصابها، لتبدأ علاقتهما باعتذار ثم  مشادة حين تصر على إكمال رحلتها إلى سيناء، الرحلة التي يراها شريف باشا قرارًا في غاية التهور وغير آمنة على امرأة وحيدة حتى لو كانت مع خادم، ويقرر في النهاية أن يصحبها في هذه الرحلة.
خلال هذه الرحلة توطدت العلاقة بين شريف وآنا سريعًا، وبدأ الحب ينسج أول خيوطه، ليكتشف كل منهما العديد من الأمور المشتركة سواء في الافكار أو المبادئ أو حتى استمتاعهما بالمناظر الطبيعة الساحرة التي مرا بها.
تمر هذه الأيام الهانئة سريعًا، ليعود هو إلى أعماله ومسؤولياته كشريف باشا، وهي تعود النبيلة الإنجليزية حبيسة التقاليد، لكن الشوق ما إن عاد حتى استعر في قلب كل منهما، وهو شوق بلا أمل، فمجرد اللقاء كان سيجلب على كل منهما الكثير من المتاعب.
لتصاب آنا في النهاية باليأس وتشعر أن حبها الكبير بلا صدى في قلب شريف وتقرر المغادرة عائدة إلى إنجلترا، ليعلم هو ذلك من أخته ويرسل لها رساله تحمل مشاعره ورغبته في الزواج منها.
هذه العلاقة كانت لتثير ضجة كبيرة في حال انكشافها، فكيف بنبيلة إنجليزية من رواد منزل المعتمد البريطانى ذاته أن تقع في حب مصري حتى لو كان من علية القوم والبشوات، فهو يظل في نظرهم من طينة مختلفة من البشر أدنى منهم بالتأكيد.
لكن، آنا وشريف يقرران تحدي كل هذه العوائق والزواج، وتمت الإجراءات في أجواء متكتمة حتى عُقد القران على يد الشيخ محمد عبده مفتي الجمهورية والمصلح الاجتماعى المعروف، وتم بعدها الكشف عن هذه العلاقة ليتلقوا التهاني من البعض ولعنات من البعض الآخر.
عرفت آنا ان قرار زواجها من شريف يعني الكثير من التعقيدات في حياتها، فسيؤدي إلى قطع أواصر علاقتها بمواطنيها في مصر وكذلك احتمال سفرها إلى وطنها سيتضائل للغاية، فهذا الوطن لن يستقبل زوجها بصدر رحب أبدًا، وهو لن يقبل أن يطئ بقدمه أرض البلد التي تحتل وطنه.
ورغم هذا قررت المخاطرة والتخلي عن ماضيها ومستقبلها المضمون في سبيل حبها والمغامرة الأروع في حياتها.
ولم يخيب شريف ظنها فقد أعطاها من الحب والرعاية والاهتمام والتفهم للفروق بين طباع كل منهما وثقافته ماجعلها تستغني عن أي شخص آخر.
هذا غير علاقة الصداقة التي جمعتها بليلى أخته وبوالدته، وعاشت في منزلهم الحلم الذي تمنته، لتعطيه بالإضافة إلى حبها ابنة صغيرة هي نور، أو نور حياتهما، كان يطلق عليها لتكتمل بها حياتهما المثالية.
ولكل حلم  نهاية بالاستيقاظ، لكن نهاية حلم ’نا وشريف كانت في غاية الإيلام ، فشريف باشا رغم كل كفاحه في سبيل وطنه ومواقفه النضالية المعروفة، كان يثير العديد من الضغائن في النفوس سواء بحياديته بعيدًا عن الأحزاب المتعارضة أو بزواجه من آنا، مما دفع البعض للتخطيط لاغتياله أمام منزله، لتنتهي حياته وهذا الفصل من حياة آنا.
كانت وصية شريف الأخيرة أن تعود آنا ونور إلى إنجلترا بعد وفاته، فالحماية التي كان يسبغها عليهما ستزول وتتعرضا للكثير من الاضطهاد سواء من المصريين أو حتى الإنجليز، لتغادر بعدها إلى وطنها ولا نعرف المزيد عن قصتها.
وهكذا انتهت مذكرات آنا التي أعادت صياغتها وترجمتها أمال الغمرواي، التي أعتقد عزيزى القارئ أنك استنتجت أنها حفيدة ليلى الغمرواي ليعيد التاريخ نفسه مرة أخرى.
ماض وحاضر يلتقيان..
إيزابيل، عمر، أمال، آنا، شريف، ليلى.
كم التشابهات التي تجمع بين مصائر الشخصيات الست من أهم ما يجذب في هذه الرواية، علمنا أن إيزابيل وعمرو وأمال أقارب تربط بينهم صلات دم تفرقت منذ عشرات الأعوام، ليلتئم شملهم عن طريق الصدفة وحدها.
مع الوقت تبدأ علاقة الصداقة بين عمر وإيزابيل، تتحول إلى حب متبادل من الطرفين، نتسائل هل يعيد التاريخ نفسه بعد هذه المدة؟
هل يخاطر عمر بحياته ويكمل نضاله في سبيل القضية الفلسطينية ويظل مهددًا بخطر الاغتيال بين اللحظة والأخرى؟
أم يتعلم من مصير خاله الأكبر شريف باشا ويتفرغ لفنه وعائتله خصوصًا بعد انضمام طفل صغير لهذه العائلة؟
هذا السؤال لم تجب عنه الكاتبة، بل تركته للقارئ ليضع النهاية التي تلائمه.
الرواية حافلة بالعديد من التفاصيل التي لم أستطع أن أتطرق لها جميعًا، فهي عمل متكامل يستحق كل دقيقة يقضيها القارئ معها، ليتعرف على جزء كبير من التاريخ العربي والقضية الفلسطينية منذ البداية بالإضافة إلى قصة رومانسية رقيقة على الهامش.
للمقال الأصلي: اضغط هنا 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق