“Hannah Arendt”.. اليهودية المعادية للسامية





بالإضافة للمتعة الشديدة التي سيشعر بها مشاهد هذا الفيلم لقصّته المختلفة والمشوقة والأداء الرائع، إلّا أنه سيدخل تجربة فكرية مميزة؛ سيخرج منها بالعديد من الأفكار التي ستلازمه لفترة طويلة من الوقت.
يتحدث الفيلم عن المنظّرة السياسية Hannah Arendt والتي كانت ترفض أن يطلق عليها لقب فيلسوفة رغم أنها تستحقه، لأنها ترى أن الفلسفة عمل فردي وأن أفكارها موجهة للبشر جميعًا، وتدور الأحداث خلال فترة مهمة في تاريخها، عندما قامت بتغطية محاكمة أدولف إيخمان الموظّف النازي المسؤول عن ترحيل وإعدام اليهود واتخذت من هذه المحاكمة موقفًا مختلفًا تمامًا عن كل اليهود؛ مما أشعل النار عليها وجعلها متهمة بمعاداة السامية رغم كونها يهودية الديانة.

من هي Hannah Arendt؟
شُغفت حنّا بالتفكير في شبابها ممّا جعلها تتجه للفيلسوف المعروف (مارتن هيدجر) لتتعلم الفلسفة على يديه ويربط بينهما علاقة عاطفية انتهت لأسباب فكرية وسياسية عندما انضم للحزب النازي في أوج قوته.
وخاضت تجربة مريرة عندما تم اعتقالها ووضعها في المعسكرات الخاصة باليهود، ولكنها تمكنت من الهرب لتترك ألمانيا ومنها إلى فرنسا ثم تستقر في نيويورك مع زوجها وتعمل كمحاضرة جامعية وصحفية وتكتب كتابها الشهير عن النازية والنظام السوفيتي وستالين باسم “أصول التوتاليتاريّة (الشمولية)”.
ثم تأتي نقطة فاصلة في تاريخها عندما تطلب من الجريدة الت تعمل بها أن ترسلها إلى إسرائيل لتغطي محاكمة الموظّف النازي (أدولف إيخمان) الذى تم اختطافه من أحد دول أمريكا اللاتينية لمحاكمته.
أسباب جعلت (حنّا) ترغب في تغطية المحاكمة
على الرغم من كونها إحدى ضحايا النظام النازي، وقد شُرّدت من بلدها بسببه؛ إلّا أنها رغبت في متابعة هذه المحاكمة عن قرب، لتتعرف على أحد القادة الذين دمّروا حياتها وحياة الملايين غيرها.
هذا غير عدم موافقتها على الأسلوب الذى اتبعته إسرائيل في اختطافه ومحاكمته بهذه الطريقة الاستعراضية دون أن يكون لديها قضية محكمة ضده، فبأسلوبها الخاص في التفكير المنطقي لم تستطع أن تنساق وراء مشاعرها وتسعي للانتقام.
 آراء جعلت حياتها مهددة بالخطر
ذهبت (حنّا) إلى إسرائيل لتحضر المحاكمة، وهناك قابلت مجموعة كبيرة من أصدقائها الذين شاركتهم فى يوم من الأيام الأفكار الصهيونية نفسها قبل أن تتراجع عنها وتنبذها لصالح التفكير المنطقي أيضًا وعدم إيمانها أن من حق اليهود الإقامة في فلسطين بالقوة؛ بل يجب أن يعملوا ليكتسبوا هذا الحق بالاتفاق مع العرب.
وبعد عودتها، تراجع أوراق القضية المرة تلو المرة قبل أن تبدأ كتابة مقالها الأول والذى أحدث ضجة كبيرة في الأوساط اليهودية وجعل الموساد يرسل لها مندوبًا يهددها إن لم تتراجع عن هذا الرأي، بينما نبذها أصدقاؤها جميعًا حتى من كانوا بمثابة العائلة لها وذلك لعدم احتمالهم أن يكون لها رأي مخالف.
عند مشاهدة (حنّا) لأول جلسات المحاكمة صُدمت بكون (أدولف إيخمان)  بشرًا عاديًا، فقد تخيلته وحشًا أسطوريًّا بأسنان تقطر دمًا، لكنها فوجئت أنّه رجل مصاب بالزكام يعلم أنه سيعدم أيًّا كان الذى سيدافع به عن نفسه، وعندما سُئل عن دوافعه لما فعلَ، أجاب بأنه  كان ينفذ أوامر تلقاها من قادته، هو لم يخطط لإعدام اليهود ولم يكن هناك سبب يجعله يكرهم هو مجرد ترس في المنظومة الشمولية الكبرى.
وهى النقطة التى استخدمتها (حنا) في مقالاتها، وأصابت قراءها بالصدمة، هي لا ترى أن المشكلة في (أدولف إيخمان)، بل السبب الحقيقي لما حدث هو النظام المستبد الذى رأى أن التطهير العرقي هو أسلوب التعامل الأمثل ليس فقط مع اليهود؛ بل مع كل من لم ينتسب للعرق الآري. الشر ليس في الأشخاص، الشر في الأفكار الشمولية التي تحول الأفراد إلى تروس في آلة عملاقة لدهس البشر.
وحتى الآن يمكننا أن نرى ذلك في كل مكان؛ فالجندي الذى يقوم بقتل المتظاهرين لا توجد بينه وبينهم أي ضغائن شخصية ولا يرى وجوههم من الأساس، هو ينفذ أوامر أُمليت عليه من قادته، ذنبه هنا ليس القتل، بل إنه ترك النظام يلغي شخصيته ويحوله لأداة لفعل أشياء لا يؤمن بها.
حقائق يهودية لا يتقبلون المصارحة بها
النقطة الثانية التي أثارت الكثير من الجدل هي اتهامها للزعماء اليهود قبل الحرب العالمية الثانية بالتواطؤ مع النازيين وتسهيل عمليات الاعتقالات، فمن رأيها أنه لولا وجود هؤلاء الزعماء لقلّ عدد المعتقلين للغاية.
وبالطبع، الرأي العام لم يتقبل مثل هذه الآراء، فاليهود هم الضحية ويجب أن يبقوا كذلك، وأي رأي يخالف ذلك هو مباشرة معاد للسامية حتى لو كان صادرًا من معتقلة سابقة.
مشهد ختامي متعة للعقل

بعد أن حاولت الجامعة أن تقصيها وتمنعها من إلقاء المحاضرات، تقرر أن تقيم محاضرة كبيره توضح بها وجهة نظرها لكل من يهمّه الأمر، خلال هذه المحاضرة شرحت (حنّا) كل أفكارها بطريقة غاية الروعة، سلبت من تحاضرهم ومُشاهد الفيلم عقله من روعة المنطق وقد استحقت في نهايتها تقدير كل من كان يزن الأمور بعقله وليس بعواطفه.
في النهاية، أريد أن أشيد بالممثلة التي قامت بدور (حنّا) (Barbara Sukowa) والتي أسرت المشاهدين بأداء رفيع المستوى ومكياج غيّر من ملامحها تمامًا، والفيلم بمجمله تجربة سينمائية تستحق المشاهدة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق