هيتشكوك مصر .. اللقب الذي حبس صاحبه بين جدرانه



أراد كمال الشيخ أن يخرج عن الأشكال السينمائية المنتشرة  في الأربعينات وبدايات الخمسينات من الميلودراما والغناء والكوميديا ويقدم سينما جديدة رأى نفسه فيها، ولكن هذا الشكل السينمائي المستجد التصق به، لم يعد أحد يراه سوى مخرج الساسبنس والتشويق، ليطلق عليه "هيتشكوك مصر"، اللقب الذي لم يسعده، وظل لسنوات حبيسًا لتوقعات مسبقة من المشاهدين والنقاد.

"هيتشكوك مصر" لقب مستحق .. على الأقل في البداية

شغف كمال الشيخ الشاب بالسينما هذا الفن الجديد، وعندما دخل أستوديو مصر لأول مرة بدأ من غرفة المونتاج، حيث كان دوره في البداية ترتيب الكادرات استعدادًا لعملية المونتاج، تدرب على يد المونتير والمخرج "نيازي مصطفى"، ليظل مونتيرًا لما يزيد عن عشر سنوات، قبل أن يقرر خوض معترك الإخراج ويعمل على فيلم "المنزل رقم 13".

حمل المنزل رقم 13 لقب الأول في مسيرة كمال الشيخ الإخراجية، وكذلك في نوعه السينمائي الجديد على السينما المصرية، والذي قدم بعده "المؤامرة" ثم واحد من أهم أفلامه وهو "حياة أو موت"، وتتوالى بعد ذلك أفلامه لتمتد إلى 37 فيلمًا تبعًا لموقع السينما.

أحدثت أفلام كمال الشيخ الأولى هزة في السوق السينمائي المصري، سواء بين المنتجين والنقاد أو المشاهدين الذين تعاطوا بصورة إيجابية للغاية مع هذا الشكل المستحدث من الأفلام، وحققت أعماله إيرادات جيدة للغاية، دفع كل ذلك إلى تلقيبه باسم هيتشكوك مصر، اللقب الذي حاول التنصل منه.

ولكن بعيدًا عن عن فرض هذا اللقب عليه أو رد فعله اتجاه ذلك، السؤال الأهم هنا هل بالفعل كمال الشيخ هيتشكوك مصر؟

كان السبب وراء التسمية كما هو واضح تقديم الشيخ لأفلام من نفس شكل وتيمة أعمال هيتشكوك الشهيرة، ومن ذات النوع السينمائي، الذي لم يقم الأخير فقط بإتقانه ولكن كذلك طوره وأسس لبعض قواعده المستخدمة حتى اليوم.

ويمكن تعريف فيلم الساسبنس بصورة مبسطة بأنه الفيلم الذي يفرض مزاج من التشويق والإثارة والترقب والقلق على المشاهد، والذي يجعل الأخير يجلس على أطراف مقعده، مراقبًا تصاعد الأحداث نحو الذروة، وإخفاء المعلومات واحد من عناصر فيلم الإثارة المهمة، حيث يحصل المشاهد بصورة تدريجية على المعلومات مع وضع البطل في عقبات متعددة عليه التغلب عليها، وتتطور الأحداث بصورة يصعب التنبؤ بها خلال السرد، ولا تحل العقدة إلا في اللحظة الأخيرة، مع إبقاء المتفرج مهتمًا من البداية وحتى النهاية.

وبالتالي على الكاتب أن يحافظ على فضول المشاهدين طوال الوقت، وتقديم توتر متصاعد مع انتظار لشيء سيء قادم والشعور بالعجز لعدم قدرتهم على دفعه، مع بعض الأمل في أن تصبح الأمور أفضل للبطل الذي يتابعونه ويتفاعلون مع قصته.

وطبق كمال الشيخ التعريف السابق بصورة واضحة في عدد من أفلامه منها المنزل رقم 13 على سبيل المثال، فالمشاهد يتفاعل مع البطل شريف الذي يعاني من نوع خاص من الكوابيس تجعله يحصل على أدلة منها عندما يستيقظ مثل مفتاح في جيبه، أو جرح مجهول المصدر، وتبدأ الأحداث في التصاعد عندما تحدث جريمة قتل يصبح متهمًا فيها، ويتصاعد التوتر بالقبض عليه، ومحاولة زوجته إبعاده عن حبل المشنقة بمساعدة طبيبه النفسي الذي في الحقيقة هو الذي أوقع مريضه في كل هذه المصائب، ولا تنحل العقدة إلا قرب النهاية.

هناك موضوعات متكررة في أفلام الإثارة والتشويق مثل الاختطاف والفدية والسرقة والأنتقام والتحقيقات والمؤامرات، بالإضافة إلى الألعاب الذهنية واستخدام علم النفس، نجد ذلك في فيلم "الليلة الأخيرة" فالبطلة بشكل ما مختطفة وضحية مؤامرة من زوج أختها التي غير من هويتها مستغلًا فقدانها الذاكرة، ويحاول إقناعها بجنونها حتى يمنعها من البحث عن هويتها الحقيقية، والتي تظل متشككة بها حتى النهاية.

كذلك شريف بطل فيلم "المنزل رقم 13" ضحية لمؤامرة تحاك ضده من طبيبه النفسي وعشيقة الأخير لتوريطه في جريمة قتل لم يقم بها استغلالًا لإصابته مسبقًا بكوابيس دعته لاستشارة هذا الطبيب من الأساس.

بينما تشمل الشخصيات المتكررة في هذه الأفلام المجرمين والملاحقين والقتلة والضحايا الأبرياء، والنساء العصابيات، والمرضى النفسيون والأشخاص ذوي العلاقات الملتوية.


وبطل الفيلم من هذا النوع يقع في مشكلة، ويكون مهدد بخطر ما، وغالبًا ما يكون مواطن عادي غير معتاد على الخطر ولا مدرب على مواجهته وذلك على عكس أفلام الأكشن مثلًا، فشريف في المنزل رقم 13، أو أحمد إبراهيم في فيلم "حياة أو موت" مواطنان عاديان، يقعان في مشكلة لأسباب خارجة عن إرادتهما تهدد حياتهما بصورة واضحة، مع قدرات محدودة على دفع هذا الخطر.

ويسود الخطر بصورة مفاجئة، مثل جريمة أو حادثة قتل، وتتورط الشخصية الرئيسية في موقف أو فخ لا تستطيع الهرب منه، وتصبح حياته مهددة، فحياة شريف كانت مستقرة على الرغم من كوابيسه ويعد العدة لزواجه من خطيبته، حتى يتم اتهامه بالقتل بصورة مفاجئة، بينما أحمد في في حياة أو موت تصبح حياته مهددة بالموت بسبب خطأ يقوم به الصيدلي، ولا يعلم بوجود هذا الخطر سوى في اللحظة الأخيرة عندما يصبح على وشك تناول الدواء الذي يحتوي السم القاتل، ، ويواجه بطل هذه الأفلام بجانب الخطر معضلات شخصية تعوقهم عن الهرب بصورة سهلة، فتشكك شريف بقدراته العقلية جعله يصدق إنه من الممكن أن يصبح قاتل كما يحلم في كوابيسه .

 وتدور الأحداث بأفلام السابنس في المدينة أو الضواحي، وعلى الأغلب في بيئة الشخصيات الطبيعية نجد هذا في حياة أو موت على سبيل المثال، حيث نتابع البطل وابنته التي تحمل زجاجة الدواء في شوارع القاهرة المعروفة، من مصر القديمة وحتى العتبة، راكبين معها تروماي رقم 30 تائهين سويًا عندما أخطأت الرقم.


كمال الشيخ ليس أسيرًأ لنوع واحد فقط

إذًا أتقن كمال الشيخ بالفعل  تقديم هذا النوع السينمائي والذي أعتبره غلافًا أو شكلًا مميزًا للأفكار التي تحملها أفلامه، ولكن هل أتقن فقط هذا النوع السينمائي فقط؟ 

قدم كمال الشيخ كما قلت بالأعلى 37 فيلمًا، قد تكون بدأت بفيلم ساسبنس قوي بالفعل مثل المنزل رقم 13، لكن مسيرته لم تقتصر على هذا النوع وحده من الأفلام، فقد عمل كمخرج منذ 1952 وحتى 1987 وضمت أفلامه أنواع سينمائية متعددة، منها الرومانسية والخيال العلمي والكوميديا وحتى الأفلام الغنائية التي أعلن إنه لم يستطع التأقلم معها.

ويمكن تقسيم أفلام كمال الشيخ تبعًا لحقبتين رئيسيتين، الأولى في الخمسينات وحتى فيلم اللص والكلاب، وتميزت بكونها أفلام نوع إلى حد كبير، ذات حرفية عالية وقدرة على جذب المشاهد.

فنجد في هذه الفترة أفلام ساسبنس مثل حياة أو موت والمنزل رقم 13 والليلة الأخيرة وقلب يحترق وملاك وشيطان، وأفلام رومانسية مثل الغريب وسيدة القصر، وأفلام ميلودرامية مثل الملاك الصغير وحب ودموع، وأفلام تختلط فيها الأنواع معًا في مزيج ليس مستحدثًا على السينما مثل حبي الوحيد ومن أجل امرأة.

في المرحلة التالية من سينما كمال الشيخ بدأ نقده الاجتماعي يعلو صوته في أفلامه، فمثلا في اللص والكلاب والرجل الذي فقد ظله أصابع الاتهام موجهة إلى الصحافة الفاسدة القادرة على التلاعب بالعقول، وتغيير الحقائق، متمثلة في الفيلمين في الممثل كمال الشناوي سواء كيوسف السيوفي في الرجل الذي فقد ظله، أو رؤوف علوان الشهير في اللص والكلاب، بينما يهاجم كمال الشيخ الاتحاد الاشتراكي وعصر بدايات الستينات في ميرامار، الذي استعرض خلاله أراء مختلفة حول ثورة 52 بعضها مناوئ وبعضها موافق، بينما في شروق وغروب وعلى الرغم من أنه يدور قبل ثورة 52 إلا أنه يهاجم الدولة البوليسية الحديثة بصورة واضحة، ومشاهد التعذيب التي من المفترض أنها وقعت بيد البوليس السياسي الفاسد فيما قبل الثورة يمكن بسهولة تطبيقها على ما حد في معتقلات بعد ثورة يونيو 1952، بينما ناقش فيلم الهارب مراكز القوى، بعد ذلك انتقل كمال الشيخ في فيلمه الأخير إلى نوع سينمائي جديد عليه، وهو الخيال العلمي في فيلم قاهر الزمن في آخر أفلامه السينمائية، حيث قال في أحد لقاءاته إنه سأم تناول الماضي والحاضر، ويرغب هذه المرة في تجربة المستقبل على سبيل التغيير.

هل كمال الشيخ مخرج مؤلف؟

في أحد لقاءاته التلفزيونية وجهت المذيعة لكمال الشيخ سؤال عن كيفية اختيار أفلامه، هل هو خيار شخصي أم الأستوديو أو المنتج هو من يفرض عليه الموضوع، فأجاب بصورة قاطعة أن المخرج حتى يستطيع تقديم الفيلم بصورة صحيحة يجب أن يكون اختياره الشخصي وموضوعًا يهمه بالفعل.

وقد بدأ الأمر مع كمال الشيخ منذ أول أفلامه، فالمنزل رقم 13 بدأ الإعداد له بخبر في أحد الصحف، ليطوره مع السيناريست علي الزرقاني ويظل السيناريو حبيسًا في الأدراج حتى يقوم بإنتاجه بنفسه بمعاونة من أستوديو مصر الذي أعطاه سلفة لسداد أجور الممثلين، وعلى الرغم من أن اسمه لم يظهر كمؤلف على تترات الكثير من أفلامه، إلا إنه اشترك في كتابتها سواء في مرحلة الفكرة أو التطوير والإعداد أو حتى السيناريو.

لكن هل كل ما سبق يعني إنه مخرج مؤلف؟ قبل الإجابة على هذا السؤال يجب العودة إلى تعريف المخرج المؤلف، فنظرية سينما المؤلف تعود إلى الموجة الفرنسية الجديدة ومنظريها من بازان وتروفو وجان لوك جودار، وفيها المخرج يسيطر على عملية صناعة الفيلم بالكامل وعناصره البصرية والسمعية حتى لو لم يكن كاتب السيناريو، فهو ليس مجرد حرفي يقوم بتنفيذ السيناريو الموضوع له، بل هو من يرسم الصورة النهائية للفيلم.

وحتى نطلق على مخرج إنه مخرج مؤلف تبعًا لأندرو ساريس يجب أن يتمتع بثلاث شروط أو مواصفات هي أن يكون متمكن من حرفته، وأن يكون له بصمة وأن يكون هناك هم خاص بالمخرج يظهر في أعماله.

بتطبيق ذلك على كمال الشيخ نجد أن تمكنه من حرفته كمخرج لا غبار عليه، ولا حاجة لإعادة الحديث عنه فمنذ فيلمه الأول أثبت إنه مخرج يعلم أن يضع الكاميرا ولماذا، وكيف يولد الأحاسيس من الإضاءة بصورة صحيحة، واختبر على مدار أفلام أساليب مختلفة من التصوير، وبالطبع خبرته السابقة في المونتاج جعلته معد تلقائيًا لأن يصبح مخرج حرفي متميز.

وبالانتقال إلى النقطة الثانية وهي بصمة المخرج الخاصة نجد أن كمال الشيخ لم يحتج حتى لتحديد بصمته الخاصة، فهو قدم منذ البداية أنواع سينمائية خاصة وجديدة على السينما المصرية، فلا يمكن أن تخطئ في أي فيلم من أفلامه الأولى على الأخص، سواء من حيث الموضوع أو الشكل بصريًا، وأفلامه اللاحقة سواء المقتبسة من أعمال أدبية أو غيرها أيضًا كانت ذات شكل ومضمون خاصين وهي النقطة التي يمكن أن تظهر أكثر عند حديثنا عن الشرط الثالث وهو الهم الخاص بالمخرج الذي يظهر في أعماله، وهنا لا يقصد بها إغراق الأفلام في الذاتية بصورة واضحة، بل أن ذلك قد يظهر حتى لو كان الصانع العمل لا يقدم سوى أفلام نوعية.

في أفلام كمال الشيخ نجد أن هناك مواضيع متكررة تظهر سواء بوعي أو بدون وعي منه، أحدها على سبيل المثال تناول المرض النفسي، فمنذ فيلمه الأولى نجد أن البطل الرئيسي مريضًا نفسيًا يعاني من الكوابيس التي اضطرته إلى زيارة الطبيب، وفي فيلم الليلة الأخيرة البطلة تشعر إنها ليست على ما يرام وتشك في قدراتها العقلية فتطلب طوال الوقت من زوجها زيارة طبيب نفسي، بل هناك فيلم كامل حبكته تعتمد على مرض البطلة النفسي وهو الملاك الصغير حول فتاة تعاني من رهاب الخروج من المنزل بعد حادثة توفي والداها خارج أسواره وبئر الحرمان بحبكته المعقدة الشهيرة.

لم يتناول كمال الشيخ المرض النفسي بصورة مستخِفة كانت شائعة في هذا العصر -وحتى الآن في الكثير من الأحيان- بل كانت الجدية والأهم المصداقية وتحري قدر من الدقة في تقديم المعلومات حول الشخصيات المكتوبة بعناية هي نقطة القوة في هذه الأفلام.

الهم الآخر الذي يظهر كذلك في أفلامه بصورة متكررة هي فكرة الفساد بصورة المختلفة، سواء بمهاجمة فساد الاتحاد الاشتراكي وأنظمة الدولة في ميرامار، أو الصحافة في اللص والكلاب أو الرجل الذي فقد ظله، أو الطبقة المخملية في المجتمع في شيء في صدري وشروق وغروب، أو حتى الشابة الخائنة لوطنها في واحد من أواخر أفلامه الصعود إلى الهاوية.

إذًا أقترب كثيرًا كمال الشيخ من صورة المخرج المؤلف المكتمل، وعلى الرغم من تنقله بين الأنواع السينمائية، والأشكال الفيلمية المختلفة إلا إنه ظل له صوت خاص يظهر في أفلامه ولا يمكن إغفاله.  ويصعب بعد كل ذلك وضع كمال الشيخ في قالب ضيق هو مخرج أفلام التشويق والإثارة فقط، أو هيتشكوك مصر.